مثلما يتحتم على المثقف أن يكون فى طليعة المشاركين فى تغيير الواقع وصنع الثورة والحفاظ على استمراريتها والعمل على تأصيلها. فإن عليه أن لا يتوهم بأن عملية التغيير فى أى
مجتمع، لا يمكن أن تتم لمجرد مشاركته فى نشر إنتاجه.. وأن لا يبالغ فى دور بعض أنواع الثقافة، وفى تأثيرها على المجتمع المتخلف، أو يقع فى وهم قدرتها على إلحاق هزيمة عاجلة وحاسمة بالتخلف وبقايا المجتمع القديم. علينا أن نعترف: أن الوصول بعملية التغيير إلى درجة الثورة الفعلية، ليس أمراً سهلاً أو ميسوراً، بخاصة فى المجتمعات أو الأمم المتخلفة حاليا والمصابة بمرض المباهاة القومية والشعور بالاكتفاء التراثى.تغيير الواقع فى مجتمع متخلف، لا تراث له ولا تقاليد موروثة، أسهل بكثير من تغيير الواقع فى مجتمع متخلف، لكنه متخم بالتراث والتقاليد المكرسة، والمفاهيم الراسخة.. متخم بروح الاتكال والغرور المحمول على أمجاد الماضى. فى المجتمع المتخلف المفتقر إلى الماضى، أنت فى حاجة إلى مقاومة الحالة الراهنة من التخلف. بحاجة إلى توعية المجتمع وتحريضه ضد واقعه لتبدأ البناء.. لكن الحالة تختلف فى المجتمعات ذات الماضى المرهق والمثقل بالتركات، مثل مجتمعنا العربى، إننا هنا بحاجة إلى الدخول فى الماضى بهدف مطاردة كل انعكاساته السلبية على الحاضر.. بحاجة إلى العبور داخل قنوات التاريخ المتعددة لنكسر جموده وأغلفته ونقتلع الجذور اليابسة فيه لنتمكن من زرع أرض من جديد. ومن هنا تجىء صعوبة تغيير واقعنا العربى، وصعوبة مهمة المثقف العربى أيضا.
إننا مثقلون بالتاريخ، مثقلون بالتراث، مثقلون بالعقائد والفواصل والمقدسات والحواجز والمحظورات والتقسيمات.. مثقلون بالقبول والتسليم والقيم والمفاهيم المتورثة بالمعارف المنقوصة والمعلومات الجاهزة.. !! ومن الصعوبة تعرية هذه الخلائط المتداخلة وإذابتها، وقلب هذه الأثقال عن كاهل الإنسان العربى دفعة واحدة. واقع مجتمعنا العربى الممسك بأثقاله التاريخية الموروثة، هو الذى يجعل مهمة التغيير صعبة، ومهمة المثقف أكثر صعوبة، حتى تبدو لبعض المثقفين مهمة مستحيلة الإنجاز، تدفعهم إلى اليأس أو الهروب، أو اللامبالاة، أو الجنون أحيانا.. لكنها لدى المثقف العملى، مهمة ليست مستحيلة وإن كانت شاقة، مهمة تحتاج إلى التسلح بفعل تحليله وفكر قادر على فهم حركة التاريخ وتأثير الفرد، وفهم العوامل الأخرى التى تؤثر فى المجتمع، وقادر كذلك على تجاوز حالة الوقوف عند المرحلة الراهنة إلى أبعد منها، إلى الممكن.
أذكر أن شاعراً قال لى منذ سنوات وكان فى حالة يأس من قدرته على تغيير الواقع: قال: لو أننى أمتلك الشجاعة الكافية لقتلت نفسى!، وعندما سألته: ولماذا تريد قتل نفسك؟ أجاب: إننا نكتب الشعر ونلقيه على الناس منذ سنوات، ونشعل كلماتنا أمامهم، لكن الأمور تبدو دائما أكثر سوءا!! وقد عجبت من فهم شاعرنا لدور الشعر والشاعر. عجبت من فهمه لدوره كفرد وفهمه لواقعه ولعوامل التغيير فى مجتمعه. كيف يتوهم مثقف أو شاعر يعيش فى مجتمع مثقل بتركات الماضى.
إن الشعر يمكن أن يكون كيمياء، ما أن نصبها فوق رأس المجتمع المتخلف حتى يتحول إلى مجتمع ثورى متقدم. حقا إن للثقافة بأنواعها دوراً جوهرياً فى التمهيد لكل تغيير، لكنها ليست وحدها التى تغيره، وصحيح أن الشعر يضىء أمام الناس، ولكنه ليس المصباح الوحيد. بل قد يكون أقل المصابيح التماعا فى مجتمع أمى لا يفهم الشعر ولا يجد بنفسه حاجة لسماعه. وعلى المثقف العربى وهو يساهم فى تغيير واقع مجتمعه المتخم بموروثات التخلف، والمتشكل من خلال قيم الماضى، والمعزول فى غالبيته عن حركة النسغ الحى، عليه أن يعتمد فى مساهمته هذه على التراكمات والتأثيرات التى قد تكون بطيئة، لكنها تشارك مع سواها من التأثيرات وعوامل التغيير، فى خلق التحول الحاسم. وأن يدرك أن الشعر بالذات غير قادر على صنع الثورات والتحولات الكبيرة.